عيّنت وزارة الثقافة، الباحث المسرحي د . محمد بوكراس مديرًا جديدًا للمعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري ببرج الكيفان، خلفًا لفوزية عكاك التي جرى إنهاء مهامها مؤخرًا.
وفي إفادات خاصة بـ"موقع الإذاعة الجزائرية"، أبرز بوكراس منظوره لتفعيل المعهد/القلعة، ومنحه ترياقًا جديدًا يسمح بتعميق أدوار أكبر معلم تكويني في الجزائر، مشيرًا إلى اهتمام بمراجعة وتحيين أرضية التعليم، والانفتاح بشكل أكبر على الحرف المسرحية الـ 42 وما يتصل بحقول السينما ووسائط السمعي البصري والتكنولوجيات الجديدة، خصوصًا مع النقص الحاد في عدة مهن فنية، على نحو يكفل تحويل المعهد إلى قطب للتكوين الفني.
ويراهن بوكراس على توأمة معهد برج الكيفان مع عدة هيئات مسرحية وسينمائية وإعلامية مثل المركز الجزائري لتطوير السينما، والمركز الوطني للسينما والسمعي البصري، والمسارح الجهوية، والمؤسسة الوطنية للتلفزيون، فضلاً عن إعادة تفعيل الاتفاقية مع المسرح الوطني الجزائري ومؤسسات أخرى.
ومنذ تأسيسه في خريف عام 1964، ظلّ معهد الفنون منارة ثقافية في الجزائر على مدار الخمسة عقود الماضية، رغم كل الهزات والتقلبات التي شهدها على مدار خمسة عقود ونصف.
والمثير أنّه ليس هناك معهدٌ في الجزائر جرى تغيير تسمياته، مثل الذي حصل لمعهد برج الكيفان الذي عرف تحويلاً في مسمياته، بواقع ست مرات كاملة، كما اتسم بمزاوجته بين وصايتي وزارتي الثقافة والجامعات.
وكانت أولى خطوات معهد برج الكيفان في ساحل سيدي فرج غربي الجزائر العاصمة، حيث جرى تأسيس المدرسة الوطنية للفنون الدرامية على يد الراحل مصطفى كاتب (08 جويلية 1920 – 28 أكتوبر 1989) أيام كان مديراً للمسرح الوطني الجزائري، وجسّد كاتب الخطوة في الرابع أكتوبر 1964 رفقة مديره الفني الفقيد محمد بودية، بهدف كبير: تكوين ممثلين مسرحيين.
وجرى افتتاح المدرسة بواسطة عناصر محلية وكفاءات أوروبية ومشرقية هامة جداً، وبإشراف عام للمخرج الفرنسي هنري كوردرو ومساعدة مواطنه جان ماري بوقلان، والمصري سعيد زهران بالتنسيق مع مصطفى كاتب، وتمّ تبني المنهج الفرنسي في التكوين، وهو واقع ظلّ قائماً إلى غاية ثمانينات القرن الماضي.
ظلال الرعيل الأول
جرى نقل مقر المعهد إلى ضاحية برج الكيفان شرقي العاصمة في 23 أكتوبر من عام 1965، وجرى استبدال تسمية المدرسة الوطنية للفنون الدرامية بالمعهد الوطني للفنون الدرامية، الذي تخرّجت منه أول دفعة ضمّت: محمد آدار، أحمد بن عيسى، زياني شريف عياد، سعيد بن سالمة، زهير بوزرار، الراحلة صونيا وغيرهم، علما أنّ الانضمام إلى المعهد لم يكن مشروطاً بمستوى دراسي معين، وشهد تركيزاً على ضمّ أبناء الشهداء، وكان ختام التكوين مشفوعاً بشهادة نهاية الدراسة كشهادة تقنية في الوظيف العمومي وليس كشهادة علمية.
في سنة 1968، وبشكل متسارع جرى تغيير تسمية المعهد الوطني للفنون الدرامية، إلى المعهد الوطني للتنشيط الثقافي والرقص الكوريغرافي، وتمّ استقدام التقني الروسي نيكولاي ساشا، إضافة إلى المصمم البلغاري جورج أبرانشاف ومواطنته لودميلا رانسكوفا، فضلاً عن مرافقين فرنسيين على آلة البيانو، لتكوين منشطين وراقصين جرى إشراكهم في إحياء المهرجان الثقافي الإفريقي الذي احتضنته الجزائر في صيف عام 1969.
هذا الوضع استمر إلى غاية صدور الأمر الرئاسي رقم 40. 70 المؤرخ في 12 جوان 1970، وأدى إلى تغيير التسمية بحيث صار المعهد الوطني للفنون الدرامية والكوريغرافيا بأمر رئاسي، مع الإشارة إلى أنّ المسرح الوطني الجزائري هو الذي كان يسيّر كافة شؤون المعهد المالية والقانونية إلى غاية الأمر الرئاسي المذكور، قبل أن يرفع يده نهائيًا، وتتولى إدارة المعهد كافة المسؤوليات.
في المرحلة ما بين 1970 و1974، جرى الانتقال إلى تكوين الممثلين والراقصين والموسيقيين، وهي فترة شهدت تدعيم طاقم التدريس في المعهد بالفنان المصري الراحل كرم مطاوع ومواطنيه ألفريد فرج وسعد أردش، لكن شهادات موثّقة تشير إلى أنّ التكوين كان محدوداً، بيد أنّه سمح بتخريج فنانين تركوا بصماتهم لاحقاً أمثال: جمال مرير، حميد رماس، مصطفى عياد، ودليلة حليلو.
الحاصل أنّه اعتباراً من سنة 1974 وإلى غاية عام 1985، تخلى معهد برج الكيفان عن تكوين الممثلين، واكتفى بإعداد دفعات من المنشطين الثقافيين، وذلك أثّر على حضور المعهد مهنياً.
وثبة الثمانينات
بداية من مطلع الثمانينات، اهتمّ المعهد بتكوين المصورين الفوتوغرافيين، قبل أن تتكفل الشقيقتان حميدة وفوزية آيت الحاج بعد عودتهما من الاتحاد السوفياتي السابق، بتكوين دفعة جديدة من الممثلين وفق المنهج الروسي، بدايةً من الموسم الدراسي 1985- 1986، مع إقحامهما مقاييس المبارزة والسباحة والجمباز والفروسية لأول مرة.
وبموجب اتفاقية تعاون بين الجزائر وكوريا الجنوبية، جرى افتتاح ملحقة متخصصة في فن السيرك بوهران عام 1989، وكانت هذه الملحقة تابعة لمعهد برج الكيفان، تماماً مثل ملحقة باتنة، لكن كلا الملحقتين توقفتا بعد أقل من سنتين، رغم نجاحهما في تكوين العشرات من الممثلين وفناني السيرك.
وبالتزامن مع الاستمرار في تكوين المنشطين الثقافيين (مرسوم 315. 91/ المؤرخ في السابع سبتمبر 1991)، واستئناف تكوين الممثلين، تحوّل اسم المعهد سنة 1991 إلى المعهد الوطني العالي للفنون الدرامية، وحصل ذلك بعد إضراب طويل شنّه طلبة التمثيل للحصول على شهادة ليسانس في التمثيل بدل شهادة الكفاءة المهنية التي كانت تُمنح في السابق.
وتسبّب حريق غامض أتت على مكتبة المعهد الثرية وتجهيزاته، في إرغام الإدارة على مواصلة التكوين بحي الكثبان المحاذي، قبل إغلاق المعهد كليا بقرار وزاري عام 1993.
انبعاث أواسط التسعينات
في 23 جوان 1995، جرى تعيين المرحوم أمقران حفناوي مديراً جديداً للمعهد الوطني للفنون الدرامية (استعاد تسميته القديمة)، والتحق في التاسع ديسمبر من العام ذاته، 19 طالباً في تخصصي التمثيل والنقد المسرحي، بعد نجاحهم في مسابقة الانتقاء.
وخلافاً لما ظلّ يطبع مرحلة 1964 و1993 من ارتجال وهجينية في إعداد البرامج التكوينية، وفق ما هو موثّق، جرى الاتكاء اعتباراً من سنة 1995 على برنامج بيداغوجي قارّ توافقت عليه وزارتا الثقافة والتعليم العالي والبحث العلمي، ونصّ على مسار دراسي يستمر خمس سنوات بشهادة الدراسات العليا في الفنون المسرحية.
وبإشراف طاقم جزائري مطعّم بوجوه روسية مصرية وعراقية، ضمّ البرنامج عدة مقاييس نظرية وتطبيقية مثل: فن الممثل، الموسيقى، الإلقاء، نظرية الدراما، مدارس الإخراج، تاريخ المسرح، تاريخ الفن، علم الجمال، فلسفة الفن، السينوغرافيا، الكوريغرافيا، التصوير، الرقص المعاصر، ناهيك عن ورشات أسبوعية في السينما، المبارزة والإعلام الآلي.
وتدعّم المعهد عاماً من بعد بتخصص السينوغرافيا، كما واصل تكوين الطلبة في دفعات التمثيل والإخراج والنقد إلى غاية سنة 2004 التي صار فيها يسمى المعهد العالي لمهن فنون العرض والسمعي البصري.
وأتى ذلك إثر قرار خليدة تومي وزيرة الثقافة آنذاك، بجدوى استنساخ تجربة معهد فنون العرض في بروكسل وجرى إقحام شعب جديدة متمثلة في: مساعد إخراج، سكريبت، التركيب والتقاط الصورة.
واتسم تكوين النقاد في معهد برج الكيفان، بعنصري المعايشة والتطبيق، ففضلاً عن المواد المشتركة مع الممثلين، يتسنى لطلبة النقد مواكبة التمارين المسرحية وإعداد سائر العروض، ما منح للمعنيين هامش إدراك الصنعة المسرحية.
وتميّز معهد برج الكيفان بتكثيفه لورشات (الوورد شوب) التي صارت حاضرة في المهرجانات، قبل أن يتبناها المسرح الوطني الجزائري تحت مسمى دورات الماستر كلاص اعتباراً من 2016.
نظام جديد ومحاذير بالجملة
اعتباراً من السنة الجامعية 2015-2016، منحت وزارة التعليم العالي والبحث العلمي رخصة التدريس بنظام الألمدي لمعهد برج الكيفان، وصار المعهد يقع تحت مسؤولية وزارة التعليم العالي من حيث البرامج البيداغوجية، ووزارة الثقافة من حيث التسيير والمالية.
لكن بعد انقضاء خمس سنوات، وتخرّج أولى دفعات النظام الجديد، لا تزال التساؤلات حول نوعية التكوين الحالي وقدرته على إنتاج صنّاع حقيقيين لمهن مسرحية وسينمائية قادرة على التموقع والإبداع.
وتتقاطع شهادات من بحثنا معهم ماضي وراهن معهد برج الكيفان، عند تأثر الحركة الفنية في المعهد بأربعة عوامل رئيسة:
1 – تباينات المنظومة الثقافية في الجزائر.
2 – ارتباط الظاهرة المسرحية في الجزائر بالأشخاص لا المؤسسات.
3 – الخضوع للصدفة والعشوائية وليس إلى هيآت متخصصة مخولة بتكوين يضمن تواصلاً عبر الأجيال ويحدث تراكماً في الخبرات، وبما ينظّم ويعقلن ويشرعن الفعل المسرحي وينمي فعاليته الاجتماعية والثقافية.
4 – تذبذب التكوين وعدم شموليته: وهنا نطرح إشكالية غياب التكوين الفني المتخصص في مهن المسرح (الماكياج، الإضاءة، الصوت، الأرشفة... إلخ) والذي يحتاج إلى مؤطرين وبرامج ومراجع، وقبل ذلك إلى خطة متكاملة وواضحة توفق بين الجانبين البيداغوجي والفني في مركز تكويني يتيم على المستوى الوطني ... وهذا التذبذب أفرز انقطاعات أقعدت المسرح الجزائري عن أداء أدواره بعيداً عن مآخذ "عقم الكوميديات وعجز التراجيديات".
على صعيد جمالي تقني، أسهم خريجو معهد برج الكيفان في ضخ دماء جديدة على مستوى المسارح بفضل اجتهادهم في استحداث طرائق وتقنيات، وسمحت جدية البحث في كسر هيمنة الكلاسيكيات، وتقديم رؤى ركحية جديدة استلهمت مسارح اللامعقول والبيو ميكانيكا والواقعية، على نحو أخرج تقمص الشخوص من الأداء الخارجي إلى الداخلي وبناء روح الدور، بفعل جماليات تصميم الإخراج والسينوغرافيا والمعالجة الدرامية لخريجي وأساتذة المعهد، أمثال: مالك العقون، أحمد خودي، أحمد رزاق، محمد شرشال، فوزي بن براهيم، محمد إسلام عباس، عبد الرحمان زعبوبي، حليم رحموني، حمزة بن جاب الله، عبد الغني شنتوف، مراد بوشهير وقوافل من المبدعين.
ما تقدّم، أنتج مسرحيات صنعت الحدث داخل الجزائر وتونس وفرنسا وبلجيكا والأردن مثل: التمرين 2001، الملك أوبو 2003، علماء الطبيعة 2006، الحكواتي 2007، لو كنت فلسطينياً 2009، طرشاقة 2016 وما بقات هدرة 2017 ومونودرام كاليغولا وغيرها.
في المقابل، تأثّر معهد برج الكيفان بحزمة نقائص، كعدم تصوير عدد معتبر من العروض والورشات، وعدم طبع مذكرات التخرج، عدا توثيق أعمال الراحل عبد الحليم رايس وبعض المذكرات الأخرى في بلد لا يزال يفتقد إلى مجلات مسرحية متخصصة، وضآلة المساحات المخصصة للمسرح في الوسائط الإعلامية الوطنية.
هذه الخطوة انتقدها رواد المعهد واعتبروها سببًا في سلب هوية المعهد، خصوصاً بعد تغييب تخصصات مسرحية حيوية بوزن الإخراج والسينوغرافيا والنقد، وسط حضور السينما.
واللافت أنّ معهد برج الكيفان – وبلسان فاعليه - يعاني ومنذ وقت طويل من مشاكل بيداغوجية متراكمة أثرّت على المسار المهني لخريجيه، وهي نقطة لم تعاني منها مدرسة الفنون الجميلة التي يتمتع طلبتها بكافة الحقوق، من اعتراف بالشهادة لدى الوظيف العمومي، ومعادلة الشهادة لدى وزارة التعليم العالي، تماماً مثل المعهد العالي للموسيقى الذي تمكّنت إدارته من تسوية الشهادات ومعادلتها، فضلاً عن الاعتراف بها من قبل الوظيف العمومي.
انتهاءً، معهد برج الكيفان الذي قام بتخريج آلاف الكوادر بين 1964 و2018، وهو معطى يراه الفاعلون قليلاً في مجتمع يستوعب 42 مليون نسمة، يبقى دوره محورياً في استنهاض فعل مسرحي تكويني مستمرّ في الزمن يرتفع بوضعية الثقافة والمثقف في مسالك التنمية.
المصدر : ملتيميديا الإذاعة الجزائرية-رابح هوادف