جاء في عرض الأسباب للمشروع التمهيدي لتعديل الدستور, الذي شرعت رئاسة الجمهورية, اليوم الخميس, في توزيع المسودة الخاصة به, أن هذا المشروع خطوة أملاها واقع سياسي فرض "ضرورة التكفل بالمطالب الشعبية لبناء دولة القانون و تحقيق التوازن بين مختلف السلطات مع ضمان الشفافية في تسيير الشؤون العامة".
و يتجلى مدلول المهمة التي كان قد أوكلها رئيس الجمهورية إلى لجنة الخبراء المكلفة بصياغة اقتراحات لمراجعة الدستور في "ضرورة التكفل بالمطالب الشعبية لبناء دولة القانون القائمة على المواطنة الضامنة لحقوق وحريات كل فرد و التوازن بين مختلف السلطات العامة, وعلى رقابة أعمالها من قبل مؤسسات ممثلة للإرادة الشعبية, وكذا عدالة مستقلة ومنصفة". و من بين ما يرمي إليه هذا الإجراء أيضا "ضمان الشفافية في تسيير الشؤون العامة والحكم الراشد بوسائل مؤسساتية مناسبة".
و انطلاقا من ذلك, كانت اللجنة قد شرعت في دراسة المحاور التي حددتها رسالة التكليف لرئيس الجمهورية, في عملية الهدف من ورائها "إثراء نص الدستور حتى يكون منسجما مع متطلبات دولة القانون" و كل ذلك 'استنادا إلى المبادئ العالمية التي يقوم عليها النظام الدستوري اليوم, وكذا الاتجاهات والتجارب المعتمدة على المستوى الدولي, مع ضرورة التقيد بما يفرضه الواقع السياسي والاجتماعي للجزائر".
و قد استهلت اللجنة مقترحاتها بديباجة القانون الأسمى للبلاد و التي تعتقد بضرورة جعلها محل دراسة معمقة باعتبارها "الأساس المذهبي" الذي يقوم عليه الدستور, و هو ما دفع إلى إدراج جملة من التعديلات عليها على غرار ذكر الحركة الشعبية التي انطلقت يوم 22 فبراير 2019 كحدث متميز في تاريخ الشعب الجزائري, فضلا إلى الإشارة أيضا إلى الاتفاقيات والمعاهدات المتعلقة بمكافحة الفساد, وتلك المرتبطة بتكريس حقوق الإنسان وترقيتها.
أما فيما يتعلق بأحكام الدستور الحالي, فقد لاحظت اللجنة أن بعضها صيغ بشكل أفقدها معناها القانوني, وهو ما يفسر صعوبة تطبيقها وتفسيرها في بعض الحالات.
مما دفع بها إلى إعادة صياغة البعض منها وإلغاء البعض الآخر بالنظر إلى طابعها غير القانوني, والإبقاء على أحكام أخرى نظرا لما تعبر عنه من حساسيات, وتجاوز أخرى بغية تحقيق إجماع حول الدستور.
وفي نفس السياق, لاحظت اللجنة أن الدستور الحالي يتضمن أحكاما لا تندرج بالنظر إلى طبيعتها ضمن الأحكام الدستورية وإنما ضمن مجال التشريع, ولم يكن إدراجها في التعديلات الدستورية المتتالية, إلا بسبب الاعتقاد بأن إضفاء الطابع الدستوري على كل مبدأ أو قاعدة أو مؤسسة سيمنحها قيمة قانونية أسمي . وهو "ما حاد بالدستور عن هدفه".
وفي نفس السياق, ترى اللجنة عدم جدوى الإبقاء على بعض الأحكام الناتجة عن النصوص القديمة, والتي "صارت غير ملائمة للتطورات التي يشهدها الوضع السياسي والمؤسساتي الوطني والدولي في الوقت الراهن".
ومن حيث جوهر العمل المطلوب, اعتبرت اللجنة أن "مراجعة الدستور حتى و إن كانت جزئية أو محدودة لا يمكن أن تغفل عن تحقيق انسجام للنص الدستوري وفق متطلبات دولة القانون.
هذه المقتضيات تفسر الاقتراحات المتعلقة بالحقوق الأساسية والحريات العمومية ومساواة المواطنين أمام القانون وتنظيم السلطات العمومية والعدالة ومؤسسات الرقابة وأخلقة الحياة العامة والتكريس الدستوري لآليات تنظيم الانتخابات".
ففيما يتصل بتدعيم الحقوق الأساسية و الحريات العامة, عادت اللجنة إلى كل النقائص التي شابت الدساتير السابقة ابتداء من دستور 1989 و وصولا إلى المراجعة الأخيرة للدستور سنة 2016, مشيرة إلى انها عملت عند دراستها لهذا المحور على مواصلة تكريس الحقوق المقررة وتدعيمها بحقوق وحريات جديدة, مع إحاطتها بضمانات ضرورية لتفعليها.
وفي هذا السياق, ارتأت إدراج أكثر من عشرين حقا وحرية جديدة مكرسة في الاتفاقيات الدولية التي صادقت عليها الجزائر والتي تشير إليها ديباجة الدستور, و هي الحقوق التي تضمنها الفصل الأول من الباب الثاني من مسودة الدستور كما عملت في هذا السياق على ضبط وتحديد هذه الحقوق والحريات, كلما دعت الحاجة إلى ذلك إلى غير ذلك.
كما تم كذلك تدعيم الفصل المتعلق بالحقوق والحريات بداية من أحكامه الأولى بمجموعة من القواعد ذات الطابع الإلزامي اتجاه كل السلطات العمومية, و هو ما اعتبرته اللجنة "مستجد جدير بالتنويه", لكونه "مساعدا على تحقيق الأمن القانوني والأمن الديمقراطي" أما فيما يتصل بالفصل بين السلطات وتنظيمها بصفة "عقلانية و متوازنة", و التي تعد مسألة تنظيمها "محور كل العملية الدستورية منذ الاستقلال", فقد وقفت اللجنة في مسودتها عند أهم التطورات التي تم إضفائها عليها على مدار الدساتير السابقة, مع إبراز مختلف العراقيل و الصعوبات التي تمخضت عن تطبيق أحكامها سابقا.
و قد شكل الوصول إلى اعتماد "نظام رئاسوي مفرط", نتيجة التعديلات التي تم إدراجها في دستور 2008, مسألة أثارت نقاشا واسعا في اللجنة تمحور حول تقييد سلطات رئيس الجمهورية من خلال اعتماد نظام رئيس الحكومة مع برنامجه الخاص وإلغاء سلطة رئيس الجمهورية بالتشريع بالأوامر و إعادة توزيع سلطة التعيين بين رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة و كذا إلغاء الثلث الرئاسي من تشكيلة مجلس الأمة.
و قد خلصت اللجنة بعد هذا النقاش إلى أن اعتماد مثل هذه القيود "سيؤدي إلى تغيير طبيعة النظام السياسي و هو ما يخرج عن محاور رسالة التكليف". كما استبعدت اللجنة فرضية النظام البرلماني "الذي لا يشكل بديلا حقيقيا بالنظر إلى السوسيولوجيا السياسية للجزائر".
وقد اتفق أعضاء اللجنة على ضرورة اعتماد نظام شبه رئاسي يبقي على الشكل الحالي للحكم لضمان وحدة السلطة التنفيذية وتجانسها, وترشيد نشاطها, وتحرير رئيس الجمهورية من الأعباء المرتبطة بالتسيير الحكومي مع المحافظة خاصة على شرعيته التي يستمدها من الانتخاب عن طريق الاقتراع العام, مع اعتبار أن إنشاء منصب نائب رئيس الجمهورية من شأنه أن يشكل سندا لرئيس الجمهورية في ممارسة اختصاصاته كلما دعت الضرورة إلى ذلك.
و دائما في مسألة الفصل بين السلطات, أشارت اللجنة إلى نسبية المبدأ في مواجهة نظام الأغلبية حيث تحولت في الوقت الراهن البرلمانات من سلطة مضادة إلى مساندة للسياسات الحكومية.
و لفتت هنا إلى مقترحها بتوسيع صلاحيات البرلمان في مجال التشريع, وقد عمدت اللجنة إلى الإحالة على القانون - كل ما كان ذلك ممكنا - كل مسألة منصوص عليها في الدستور فضلا عن تعزيز الرقابة الدستورية على اللوائح.
وفي نفس السياق, عملت اللجنة على تعزيز سلطة رقابة البرلمان على عمل الحكومة من خلال جملة من الآليات, مع تعزيز حقوق المعارضة البرلمانية.
في ذات المسعى, تم اقرار حماية العهدة الانتخابية بضبط الحصانة البرلمانية, حيث تم التمييز بين الأعمال المرتبطة بممارسة المهام البرلمانية كما هي محددة في الدستور, وهي التي لا يمكن أن يكون عضو البرلمان محل متابعة بشأنها, والأعمال غير المرتبطة بتلك المهام, والتي لا يتمتع بشأنها إلا بحصانة إجرائية وفق الشروط التي يحددها القانون العضوي.
وبشأن الغرفة الثانية للبرلمان, فإن اللجنة تعتقد بأن الفكرة التي كانت وراء إنشاء مجلس الأمة سنة 1996 كانت قائمة على أساس "الرغبة في توسيع التمثيل إلى الكفاءات الوطنية غير الممثلة بشكل كاف داخل البرلمان وممثلي الجماعات الإقليمية غير أنه و في واقع الأمر "تم إفراغ هذين الاهتمامين من محتواهما, وهو ما ولد لدى اتجاه من الرأي العام شعورا بعدم جدية هذه المؤسسة". إلا أن اللجنة سجلت اعتقادها بضرورة الإبقاء على مجلس الأمة بغية "تدعيم التمثيل وتوازن المؤسسات ودوام الدولة".
أما بخصوص استقلالية قطاع العدالة, فترى اللجنة بأنه وعلى الرغم من أن الدساتير الجزائرية كرست مبدأ استقلالية القضاء والمبدأ المرتبط بها وهو عدم جواز عزل القضاة إلا أن الاصلاحات التي تم اعتمادها منذ تأسيس اللجنة الوطنية لإصلاح العدالة لم تمس بصورة أساسية إلا بعض الجوانب القانونية.
و من أجل تعزيز استقلالية القاضي اقترحت اللجنة منع مختلف الهيئات العمومية من اتخاذ إجراءات من شأنها المساس بهذه الاستقلالية, أو تعطيل تنفيذ الأحكام القضائية تحت طائلة العقاب, كما ارتأت الاهتمام بتشكيلة المجلس الأعلى للقضاء, وبصلاحياته كهيئة ضامنة لاستقلالية العدالة, إلى غير ذلك من الحلول التي من شأنها تحقيق هذه الغاية, من منظور اللجنة.
و في السياق المتعلق بالعدالة الدستورية, تقترح اللجنة تحويل المجلس الدستوري إلى محكمة دستورية و بالتالي إعادة النظر في تشكيلتها وصلاحياتها, حيث تقترح تمديد رقابتها إلى مراقبة مطابقة القوانين للاتفاقيات الدولية والى مراقبة دستورية الأوامر التي يصدرها رئيس الجمهورية.
و في باب أخلقة الحياة العامة, اهتمت اللجنة بالبحث عن كيفية إدراج في النص الدستوري ضمانات أكثر لحماية الأموال العامة وإيجاد وسائل فعالة للوقاية من الفساد ومكافحته.
وقد قدمت اللجنة في هذا الصدد, اقتراحا بإثراء نص الدستور بأحكام من شأنها منح أساس وقوة قانونية للتشريع, تهدف بوجه عام إلى "ضمان شفافية أكثر في تسيير الشؤون العامة باعتماد مبادئ الحكم الراشد كما هو مقرر على الساحة الدولية".
و في هذا المجال, اهتمت اللجنة بالدور الذي ينبغي أن يؤديه مجلس المحاسبة مع ضرورة إعادة النظر في القانون المتعلق بتنظيمه وسيره وعمله لتعزيز دوره الرقابي.
ومن جهة أخرى ارتأت اللجنة أن تمنح للسلطة الوطنية المستقلة للانتخابات مركزا دستوريا بتحديد طبيعة تشكيلتها لضمان استقلالها وتمثيليتها.
في سياق ذي صلة, قدمت اللجنة اقتراحات خارج المحاور المعلن عنها ضمن مجال التقدير الذي ترك لها, إذ تطرقت في مسودتها إلى الأحكام المتعلقة بالجماعات الإقليمية, و مسألة إعادة النظر في التنظيم الإداري للدولة, مع التركيز على علاقات الإدارة بالمواطنين إلى غير ذلك.
وضمن الأحكام خارج المحاور التي طالتها اقتراحات اللجنة, شرط التمتع بالجنسية الجزائرية دون سواها لتولي المسؤوليات العليا في الدولة و التي ترى فيه اللجنة "إجحافا في حق الكثير من الإطارات الجزائرية ", مقترحة حذف هذه الأحكام.
و على صعيد آخر, أجمع أعضاء اللجنة على اقتراح إدراج تمازيغت باعتبارها لغة وطنية ورسمية ضمن نص المادة المتضمنة الأحكام التي لا يمكن أن يمسها أي تعديل دستوري.