في سهرة نوفمبرية خالدة خلود أول رصاصة في وجه مستعمر مستبد عاث في الوطن فسادا ، اٌستحضرت روح الجزائر من بداية البدايات إلى عهد المصالحة والسلام ، بحضور الوزير الأول عبد المالك سلال ووزير المجاهدين الطيب زيتوني وجمع من الوزراء وممثلين عن السلك الأمني والسلك الدبلوماسي المعتمد، وثلة من المجاهدين الأخيار وأبناء الشهداء الأبرار ، أبدع أزيد من 300 فنان جزائري شاب تحت قيادة المخرج المتألق عمر فطموش في سرد تاريخ الجزائر فنيا على مدار 24 قرنا ، من خلال عرض ملحمي بطلته الوحيدة الجزائر والجزائر فقط ..
إنها " ملحمة الجزائر" التي لمت شمل أباطرة الفن الجزائري على غرار المرحوم معطي بشير ، والمرحوم محمد بوليفة والشعراء المرحوم عمر البرناوي" المؤلف"، أبو القاسم خمار، عزالدين ميهوبي وإبراهيمي صديقي الذين جادت قرائحهم بأعبق القوافي تمجيدا لبلد المليون ونصف المليون شهيد.
المكان.. القاعة البيضاوية..الزمان .. عشية أول نوفمبر المجيد .. الحدث .. الذكرى الستون لاندلاع الثورة التحريرية المباركة .. الأبطال.. شبان وشابات جزائريون من جيل الإستقلال وبروح الوطنية مفعمين صالوا وجالوا على خشبة المسرح مقدمين أروع العروض الفنية والرقصات الكوريغرافية التي تصف تاريخ الجزائر الحافل بالأحداث ..أحداث مؤلمة أبطالها غزاة طامعون وأحداث سارة صنعها أبناء الجزائر المقاومون الرافضون للاحتلال ولأي تواجد أجنبي على أرضهم الطاهرة تحت أي من الأشكال.
فمع أغنية" أنا هائمة " تبدأ " ملحمة الجزائر" حيث تظهر الشخصية التي تعبر وترمز إلى الجزائر في لحظات تساؤل مع الزمن الدوار ، و تبرز شخصية الراوي " محمد عجايمي" بصوته الجهوري تروي تاريخ الجزائر في محطاته المتعاقبة ، آخذة الحضور والمشاهدين إلى مرحلة ما قبل التاريخ بعرض كوريغرافي و ديكور يصف الجذور الأولى والبدايات لسكان الجزائر ، لتليها مرحلة ظهور الجيوش البربرية وقادتها الذين خلدوا أسماءهم في التاريخ بدءا من ماسينيسا ، يوغرطة وتاكفاريناس قادة الجيوش البربرية ضد الرومان في مشاهد ضمن فيها الحضور فرجة وتفاعل معها حزنا وفرحا وكأن الزمان عاود المرور من هنا ، سيما حينما غز الوندال أرض الجزائر الذي صاحبته أغنية " أنا بؤس" المعبرة عما فعله هذا الغازي المتوحش وكيف قاومه القديس أوغستين الذي سقط في ساح الفدا وما أعقب الفترة من انحطاط ..
انحطاط وبؤس سرعان ما يُرفع عن سكان الجزائر الطيبين المسالمين ، بالفتوحات الإسلامية تحت قيادة التابعي عقبة بن نافع وكيف أبت ملكة البربر " ديهيا" أو " الكاهنة" الخضوع له في بادئ الأمر لتموت في ساحة الوغى وترسل أبناءها ليعتنقوا الإسلام ويصبح أحفادها من أكبر الفاتحين للأندلس ..
وتمتد الأحداث وتتعاقب على مسرح القاعة البيضاوية بتوالي الحضارات الإسلامية التي تعاقبت على هاته الأرض الطاهرة ، وأثرها على الحياة اليومية للجزائريين، وهنا تظهر براعة المخرج فطموش والكوريغرافي رياض بروال بمشهد كوريغرافي يحاكي تطور الفنون على غرار الشعر والفن العماري خلال تلك الحقبة ..
" ملحمة الجزائر" لم ولن تنسى مرحلة السيادة على البحر ، وفترة الغزو الإسباني وما أعقبه من مقاومة جزائرية ، اختار لها التاريخ والمخرج البطلين خير الدين وبابا عروج بربروس ليجسدا السيطرة الجزائرية على حوض المتوسط قبل أن تنكسر شوكتها في معركة نافارين التاريخية وتتجلى ملامحها في حادثة المروحة .
ويعود الانحطاطا مرة أخرى إلى جزائر الشهداء بغزو فرنسي بغيض من ميناء سيدي فرج ، أبرز فطموش مشاهده بوصلات فنية، عرت وحشية وبطش الإستعمار الفرنسي ، تلاه مشاهد المقاومة الشعبية التي تفاعل الجمهور الذي غصت به القاعة البيضاوية مع قادتها الأبطال بدءا بالأمير عبد القادر بن محي الدين والقائد الشهم أحمد باي وصولا إلى سيدة من حرائر الجزائر ممثلة في لالة فاطمة نسومر ، مرورا بالثورات المجيدة لكل من الشيخ المقراني والشيخ الحداد والشيخ بوعمامة ، قبل أن يختتم المخرج وشباب الجزائر المتخرجين من المدرسة الجزائرية " ألحان وشباب" ،هاته الحقبة النكبة بمشهد يحاكي احتفالية الحاكم الفرنسي بمائوية الإستدمار الفرنسي ، التي أفسدتها مقاومة ولكن من نوع آخر قادها كل من شيخ العلماء الجزائريين العلامة عبد الحميد بن باديس والأمير خالد ومصالي الحاج أبو الحركة الوطنية ..فترة هي الأخرى انتهت بمشهد دموي أليم من " ملحمة الجزائر" ..مشهد فني يؤرخ لأعظم المجازر في التاريخ اُستبيح خلالها دم الجزائريين استباحا في وقت كان فيه العالم يحتفل بالحرية..
ووتواصل ملحمة الجزائر مع التاريخ الذي سجل ثورة من أعظم الثورات في القرن العشرين ، بلوحات كوريغرافية اختار لها المخرج عمر فطموش زمنا قصيرا بحسب بعض الملاحظين ربما لشح الوقت ، لكن هذا الزمن وعلى قصره أبرز ملامح الأبطال الذي صنعوا بطولات الشعب الجزائر على غرار العربي بن مهيدي ، وممن قضوا نخبهم في سبيل الإستقلال.
ووظف المخرج المسرحي عمر فطموش في الملحمة-التي تكفل بسينوغرافيتها بوخاري حبال وبالكوريغرافيا رياض بروال- تقنية "الركح المفتوح" دون الاستعانة بديكور ضخم ليترك حرية أكبر للممثلين والراقصين الكوريغرافيين الذين تجاوز عددهم 300, كما وظف الكثير من الإيحاءات في أحداث بارزة كأحداث 5 أكتوبر 1988.
وأوضح عمر فطموش للصحافة أن اختيار تقنية"الركح المفتوح" جاءت لمنح "حرية أوسع"للتعبير الجسدي والإيماءات بالاستعانة بعناصر توظيفية كالإضاءة والرقص والمقطوعات الموسيقية لخلق جو جمالي".
و تم تخصص خلال هذه الأمسية وقفة تكريمية لفنانين رحلوا عن الساحة الفنية كانوا قد ساهموا في هذا العمل المسرحي من أمثال عمر البرناوي والملحنان محمد بوليفة ومعطي البشير.
و نال عرض "ملحمة الجزائر"-الذي أنتجه الديوان الوطني للثقافة والإعلام ووزارة المجاهدين- إعجاب الجمهور الذي انبهر بأداء الممثلين على الركح حسب البعض الا ان البعض الآخر لفت انتباهه "الشح في المشاهد التي احتوتها اللوحات الكوريغرافية في ثورة نوفمبر المجسدة على خشبة المسرح".
ويذكر أن"ملحمة الجزائر" قد عرضت في 1994 وكتب نصها الشاعر الراحل عمر البرناوي وشعراء آخرون من أمثال سليمان جوادي وعزالدين ميهوبي كما تم الاستعانة بمقطوعات شعرية لمفدي زكريا والشيخ عبد الحميد بن باديس والأمير عبد القادر
ولم تتوقف فعاليات السهرة النوفمبرية الملحمية عند هذا الحد ، بل وقف كل الحضور لتحية العلم الجزائري في التوقيت 00:00 إيذانا بدخول أول نوفمبر 2014 ، ستون عاما مرت وتوالت فيها الأحداث والتغيرات ليبقى الثابت فيها الوفاء لشهداء نوفمبر ونداء أول نوفمبر المجيد.
المصدر : الإذاعة الجزائرية