يحيي مهنيو قطاع الاعلام، هذا الجمعة، اليوم الوطني للصحافة المصادف لـ 22 أكتوبر من كل سنة، ويقف رجال الصحافة في هذا اليوم ليستذكروا ويتذكروا مهنة المتاعب وما حققته من مكاسب وعثرات حالت دون الوصول إلى ما تتطلع اليه صاحبه الجلالة.
ولا يختلف أهل الصحافة كلهم دون استثناء في أن الاعلام لم يغب ولم يتغيب يومًا عن مواكبة كل تطورات البلد منذ حرب التحرير الوطنية إلى مرحلة البناء والتشييد فالجزائر الجديدة وما حفلت به من تحولات في كل المجالات.
لكن مهنة المتاعب اليوم وبحسب مهنييها تريد مزيدا من البذل والعطاء من أجل الارتقاء بها وتطويرها لاسيما الأوضاع السوسيومهنية للصحفيين التي أصبحت لا تستجيب لمتطلبات العمل والبقاء فيها وما النزيف الذي تشهده الكثير من المؤسسات الاعلامية الخاصة دليل واضح على تراجع أدوار السلطة الرابعة.
أدوار كبيرة مستمرة منذ فجر ثورة التحرير
في هذا الشأن، يقول الاعلامي المخضرم، محمد بوعزارة، إنّ الصحافة الجزائرية إبان ثورة التحرير الوطنية قدمت خدمات جليلة رغم بساطة وسائلها، إلاّ أنها أدّت دورها كاملاً، انطلاقًا من بيان أول نوفمبر والمناشير التي كانت تنشر وتوزع إلى جريدة المقاومة التي تأسّست في 22 أكتوبر 1955 ثم جريدة المجاهد التي انطلقت عاما بعد ذلك وكانت لهما مساهمات كبيرة، بالإضافة إلى إذاعة الثورة التي انطلق بثها في 1956، وتعززت بعد ذلك بثها في 1959 عبر 15 إذاعة عربية ودولية ساهمت في نقل صوت الثورة الجزائرية عبر العالم، كل ذلك لم يستطع اعلام فرنسا الاستعمارية مواجهته بالرغم من حجم الانفاق الذي قدر آنذاك بـ مليار و500 مليون فرنك فرنسي يوميًا أي 7500 مليار طيلة سبعة سنوات في حربها الدعائية ضد الجزائر، لكن انتصرت الجزائر وانتصر الاعلام الجزائري الذي كان قائمًا على المصداقية وعلى ايصال الرسالة الجزائرية النبيلة من أجل استعادة الاستقلال والحرية.
وبعد نيل الاستقلال -يضيف بوعزارة- أخذت كوكبة من المجاهدين والثوريين على عاتقهم إعادة التأسيس لمهنة الاعلام في الجزائر وهم الذين كانوا في إذاعة الثورة ومختلف الإذاعات الأخرى، ومنهم من كانوا يشكلون خلية جبهة التحرير الوطني داخل التلفزيون والإذاعة الفرنسية نفسها، وعلى رأسهم رئيس الخلية الراحل، اسماعيل مدني، إلى جانب 28 فردا، ويروي بوعزارة العمل البطولي الذي قام به الاعلاميون المجاهدون الخمسة ومهمّة تأميم مؤسستي الإذاعة والتلفزيون وهم: عبد العزيز شكيري، عبد القادر نور، عيسى مسعودي، ورشيد النجار، لما أنزل عبد العزيز شكيري العلم الفرنسي ورفع العلم الوطني في غرّة 28 أكتوبر 1962، مما جعل الرئيس الراحل أحمد بن بلة يسارع إلى مبنى الإذاعة والتلفزيون ويعلن عن استرداد السيادة عليهما، مبديًا اعجابه بهذا العمل الثوري والبطولي، حيث قال :"يا سي عبد العزيز ألم تخف أن يطلقوا عليك الرصاص؟! "، ولم يرض هؤلاء الاعلاميين الأبطال أن يحل أول نوفمبر ولا تكتمل الفرحة ولاتزال مؤسسة الإذاعة والتلفزيون تحت سيطرة المستعمر.
وفي مرحلة البناء والتشييد، أخذ الاعلام الجزائري على عاتقه مسؤوليات لعب أدوار كبيرة بالنظر إلى نسبة الأمية المرتفعة وعودة اللاجئين الجزائريين، وقد تمّ استحداث عدّة جرائد تقدمتها يوميتا الشعب والمجاهد، ثمّ النصر في قسنطينة وجريدة الجمهورية بوهران لاحقًا إلى جانب الإذاعة الوطنية والدور المحوري الذي لعبته في إبلاغ الأهداف والمقاصد لبناء جزائر مستقلة قوية ومزدهرة.
وعن مرحلة التعددية السياسية والإعلامية التي أقرها دستور 1989، نوّه بوعزارة بالدور الكبير الذي لعبته الإذاعة الوطنية وانتشارها عبر تأسيس الإذاعات الجهوية والمحلية وإقامة عمل جواري ينقل مشاغل وهموم المواطنين، بالإضافة إلى انتشار الصحف الورقية والعناوين العديدة في مشهد أثرى الساحة الاعلامية وقدّم خدمات كبيرة للوطن والمواطن.
وبخصوص تحسين الأوضاع الاجتماعية والمهنية للصحفيين، نوّه بوعزارة إلى أنّ هذا العمل ظلّ مطلبًا متواصلاً من أيام اتحاد الصحفيين الجزائريين مطلع الثمانينات لايصال صوت مهنيي القطاع إلى الهيئات الوصية، فالصحفي الجزائري –يضيف بوعزارة- لا يقلّ شأنًا ومهنية وإبداعًا من نظرائه في البلدان الأخرى، ولدينا أمثلة وأسماء كثيرة أثبتت وجودها وتواجدها في العالم، فالصحفي الجزائري لا يستحق سوى التكفل والاهتمام اللازمين ليثبت جدارته.
"الطفيليون" شوّهوا المكاسب وقانون الاعلام "المنتظر" كفيل بتطهير المنظومة
رأى مدير جريدة الحوار الجزائرية، محمد يعقوبي أنّ التجربة الاعلامية الجزائرية التي يزيد عمرها عن الربع قرن عاشت ولا تزال تعيش الكثير من الانتصارات والمكاسب والموجات الايجابية، في المقابل أيضًا عرفت التجربة الكثير من الاخفاقات والاختلالات التي يجب تصحيحها، فإذا تحدثنا عن الصحافة المكتوبة –يقول يعقوبي- لا يمكن لأحد أن ينكر أنّ التجربة المكتوبة كانت رائدة منذ بدايتها في اقرار التعددية الاعلامية مطلع التسعينيات في كفاحها، ومع تراكم السنوات شهدت حصادًا اعلاميًا محترفًا يضرب به المثل داخل وخارج الوطن.
وتأسف يعقوبي إزاء واقع الصحافة المكتوبة في السنوات الأخيرة وما تعيشه من فوضى واقتحام من سماهم "الطفيليون"، بجانب "سيطرة أصحاب المال الفاسد والنفوذ السياسي"، وهؤلاء سعوا لتصنيع كل الخرائط ومنها الخريطة الاعلامية وبالطبع تمّ تهميش الكثير من الكفاءات الصحفية والكثير من المهنيين.
وقال يعقوبي إنّ الصحافة المكتوبة بها ما يربو عن 180 عنوانًا، لكن السؤال المطروح بحسبه: "هل كل هذه العناوين هي صحف؟ وهل كل هذه الجرائد قائمة على معايير المهنة وتخدم الصالح العام ؟"، ويجيب بيقين: "طبعا لا! ، هناك بالفعل صحف وطنية محترمة وتحترم معايير المهنية وتشغّل العشرات من الصحفيين وتدفع ما عليها من حقوق، في المقابل توجد نشريات تشغّل عددًا قليلاً من الصحفيين لا يأخذون مستحقاتهم، محتوياتها من الانترنيت، ومبتغاها اللهث وراء ريع الاشهار كما اعتادوا على ذلك في العهد الماضي"، وهو الأمر -يضيف يعقوبي- "أثّر كثيرًا على الصحافة المكتوبة، وجعلها عرضة للتمييع والتدجين وبالتالي غياب الكثير من الممارسات الأخلاقية".
وقال يعقوبي: "هذا الوضع يجري الآن العمل على تصحيحه، فهناك وعي كبير من طرف الدولة والوصاية بهذه الاختلالات الموروثة عن العهد الماضي، ويجري تصحيحها بالطرق القانونية، فالبلاد تخرج من فوضى قبل الحراك في جزائر جديدة ذاهبة في شكل تدريجي نحو اصلاح الأوضاع في كل المجالات ومنها قطاع الاعلام".
وفيما يخص قطاع السمعي البصري، يرى مدير جريدة الحوار أنّ "التجربة لم تقم على أسس صحيحة وقانونية، فالمشهد كان يضم حوالي 60 قناة بمحتويات جزائرية لكن تبثّ من الخارج، وبالتالي حقوق البث تدفع نحو الخارج ومعه يهرّب المال بطرق غير شرعية، ما فتح الباب أمام رجال المال الفاسد في تأسيس الكثير من القنوات بهدف تبييض الأموال وخدمة الأجندات الخاصة، لكن أين هذه القنوات؟...معظمها آلت إلى الافلاس، واختفى الكثير منها، والمئات من الصحفيين الذين كانوا يشتغلون بها هم الآن في بطالة مجحفة، مؤكّدًا أنّ قانون السمعي البصري الموجود على طاولة الحكومة، سيعمل على تصحيح واستدراك الوضع لافتتاح عهد جديد بقاعدة قانونية صلبة تسمح بتأسيس قنوات جزائرية مئة بالمئة في محتوياتها وفي الكوادر المشرفة عليها، بحيث تكون قادرة على لعب أدوار إيجابية في خدمة البلاد، مؤكّدًا أنّ هناك المئات من الصحفيين وعلى قدر كبير من الكفاءة، مستعدون لخوض هذه التجربة مجددًا من خلال بعث تجربة سمعية بصرية أخرى على أسس أكثر نضجًا ومهنية".
وبخصوص الصحافة الالكترونية، قال يعقوبي إنّ المؤكد هو أنّ الورقية في طريقها إلى التلاشي لصالح الصحافة الالكترونية التي تتكاثر بشكل سريع جدًا، وأشار إلى بروز المئات من المواقع استطاعت استيعاب مئات الشباب الجزائريين من خريجي الجامعات والكفاءات الشابة التي تريد تحقيق أحلامها في الصحافة وتثبت ذاتها في هذا المجال، مؤكّدًا أنّ المواقع الالكترونية بما فيها من شباب لا يمكن الخوف منها ولا الخوف عليها، وهي في حاجة فقط للتأطير والدعم، وتابع: "رأينا في الأيام الماضية الحملات العدائية التي تعرضت لها الجزائر من الجار المغربي وفرنسا، وكيف كانت المواقع الالكترونية في الصف الأول دفاعًا عن بلادنا دون حتى أن تكلف بذلك ودون دعم يذكر، مما يجعلنا ننتبه إلى أنّ هذه التجربة في حاجة إلى احتضان وتأطير ودعم، حتى تقوم بدورها كما ينبغي وتساهم في إعادة المهنة إلى حقيقتها.
ودعا يعقوبي الصحفيين والناشرين إلى تنظيم أنفسهم، مضيفًا: "نحن ندخل جزائر جديدة، لذا على ناشطي المهنة الانتباه خصوصًا إذا تعلق الأمر بوحدة وسيادة الجزائر والمخاطر التي تهدّد البلد، بأن نكون يدًا واحدة ونتعاون، بينما المنافسة مفتوحة على الصعيد الداخلي لكن بكل روح اخلاقية ومهنية، دون نسيان توفر المنظومة القانونية التي تضبط مجال السمعي البصري والصحافة المكتوبة، قانون الاشهار والصحافة الالكترونية لأننا في حاجة لهذه القوانين من أجل تأطير هذه المهنة".
الاعلام الرقمي تجربة مُهمة تحتاج إلى دعم
وصف مدير موقع سبق برس، محمد رابح، حال الاعلام الجزائري بـ "الوضع المأساوي"، خصوصًا في ظل انحسار الوظائف، بالإضافة إلى اختفاء عناوين بسبب الوضعية الاقتصادية وشحّ موارد الاشهار في السنوات الأخيرة، مركّزًا على "المستقبل الغامض للجيل الصاعد من الصحفيين الذي يتأزم - بحسبه - يومًا بعد يوم"، على حدّ وصفه.
وقال رابح إنّ "مقابل كل ذلك الوضع المأساوي، هناك بشائر إرادة سياسية تطمئن مهنيي القطاع وبعض المؤسسات الناشرة التي تسعى جاهدة لتطوير أداءاتها رغم كل المعيقات.
وتابع محدثنا: "اليوم هناك التزامات على عاتق المهنيين في قطاع الاعلام من أجل الوفاء بكل الواجبات المهنية وتقديم خدمة اعلامية احترافية، مقابل ذلك يُنتظر من الجهات الوصية ضبط الترسانة القانونية التي تأخرت، ويُنتظر تداركها من خلال قانون الاعلام الذي سيناقش ويصادق عليه في البرلمان".
ودعا رابح، إلى ضرورة الالتفات والاهتمام بالاعلام الرقمي، الذي قال إننا تأخرنا كثيرا في تأطيره وتنظيمه مطالًبا بضبط أطر المنافسة على الاعلانات والتمويلات الشفافة، وهي الأسباب وراء تأخر بناء ترسانة اعلامية رقمية مثل نظيراتها في الدول الأخرى التي تستفيد اليوم منها ومن خدماتها الاعلامية الكبيرة، كما طالب رابح بجعل قانون الإعلام الجديد في خدمة المهنة والمهنيين، والإسراع في تنصيب مجلس وطني للإعلام أو سلطة ضبط تكون حكمًا بين المهنيين وقانون للإشهار يفتح باب المنافسة أمام المواقع الالكترونية على الاعلانات العمومية وفق معايير شفافة، وهذا وحده –يضيف المتحدث- ما سيمكّن من فرز الاعلام الوطني الحقيقي وغيره، على نحو سيجعل الجزائر تستفيد من بناء منصات اعلامية تخدم الوطن والمواطنين، وتكون حصنًا منيعًا يصدّ كل محاولات النيل من الجزائر.
المصدر: علي قسمية - موقع الإذاعة الجزائرية